إبراهيم شعبان يكتب: بث مباشر.. إبحار جاد في إشكاليات النشر بعصر ما بعد الرقمنة

قليلة هى الكتب التي تتوقف بعمق وتحليل أمام المشهد الإعلامي والصحفي في ظل ثورة رقمية هائلة، وهجوم إعلامي عبر وسائل ووسائط متعددة لم تكن معهودة من قبل.
وبعدما كان الخبر في السابق مقصورا على الجريدة الورقية والوكالة الإخبارية مثل رويترز وأخواتها، تطورت الميديا للإذاعة ثم التلفزيون ثم نقلة وسائل التواصل الاجتماعي ثم الإعلام عبر صناعة المحتوى والذكاء الاصطناعي.
ووسط كل هذه الثورة، فإن المعايير الإعلامية والضوابط الحقيقية للخبر وللمادة المنشورة، وما يصح أن ينشر على العالم وما لايصح، لا تزال غائبة بشكل كبير، بعدما أصبح من حق كل من يحمل هاتفا محمولا أن يصبح إعلاميا في دقائق ويبث ويرسل معلومة لـ الآلاف أو حتى الملايين من المتابعين في لحظات، ولا يهم إن كانت هذه المعلومة صحيحة أو خاطئة أو مضللة أو مجرد دعاية كاذبة، هو امتلك الوسيلة، واستطاع الوصول عبر تويتر أو فيس بوك او انستجرام أو تيك توك، أو غيرها.
ووسط كل هذا الزخم واللامعايير يطل علينا كتاب الصحفي القدير محمد الشرشابي:”بث مباشر.. إشكاليات النشر في عصر ما بعد الرقمنة”.
والحقيقة إنه ما من متعة توازي قراءة صفحات هذا الكتاب المهم، الذي تحتاجه المكتبة المصرية والعربية، أكثر من متعة القراءة نفسها بأسلوب الأستاذ محمد الشرشابي. فالرجل وبالرغم من أنه توقف أمام موضوع جاف وليس جماهيري، كمثل الكتب الرائجة في هذه الأيام، الا أنه وبأسلوبه الرشيق وعبارته المحكمة وهضمه التام للموضوع، استطاع ان يقدم مادة دسمة وحقيقية ورؤية للمشهد الإعلامي الراهن.
وفي كتابه الجديد، بث مباشر الصادر عن دار الباسل للنشر والتوزيع لا يخفي الشرشابي هدفه منذ الصفحات الأولى لكتابه الممتع، فيقول:”أن أزمات المشهد الصحفي والإعلامي في عصر الرقمنة، تعكس تعقيدات عميقة تتعلق بالتكيف مع التكنولوجيا الحديثة والتحولات الاجتماعية والاقتصادية، حيث حملت الرقمنة معها تحديات أخلاقية كبيرة، خاصة فيما يتعلق بخصوصية الأفراد وحماية البيانات.
ومع انتشار الصحافة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل الوصول إلى كم هائل من المعلومات الشخصية عن الأفراد، مما يطرح تساؤلات أخلاقية حول كيفية استخدام هذه المعلومات من قبل الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، ويزيد من خطر انتهاك الخصوصية. وأسئلة أخرى أكثر إلحاحا عن إتاحة هذا الكم الهائل من المعلومات أمام المتطفلين على مهنتي الصحافة والإعلام، والمدعين لهما، بعد أن بات بإمكان كل من يحمل هاتفًا ذكيًا أن يعطي لنفسه الحق في تصوير الآخرين والتسجيل لهم، أو حتى التسجيل عنهم، ومن ثم يعطي نفسه الحق في أن يخلع على نفسه لقب صحفي أو اعلامي”. مضيفا وفي وضوح تام:”أن الوسط الصحفي نفسه هو من منح هؤلاء الفرصة، بسبب حالة التردي المهني والاخلاقي والتي حولت مهنة الصحافة من مهنة مقدسة، إلى مهنة الحلنجية والعرضحالجية”، وفق نص تعبيرات الأستاذ الشرشابي.
وعبر صفحات الكتاب، يسير بنا الأستاذ محمد الشرشابي أمام مختلف الوسائل الاعلامية المستجدة على المشهد، وتأثيراتها ورؤيته لهذه التطورات وما يصاحبها من ظواهر اجتماعية واقتصادية، فيتوقف أمام صناعة الصورة الذهنية، وكما انها تلعب دورا أساسيا في تحسين منتج ما أو الترويح لسياسة ما، فإنها تلعب أدوارا اخطر بكثير في تشويه صورة ما والأخطر عندما تتصدى هذه الصورة الذهنية لدول أو لقوميات أو لعرقيات بعينها، وفيما يعرف بصناعة الفوبيا، ولعل العرب والمسلمين من أكثر الشعوب التي عانت من افتراءات صور ذهنية ملفقة.
ثم يتوقف بنا الأستاذ محمد الشرشابي أمام مرحلة تزييف الوعي عبر هذه الصور الذهنية الملفقة وهو ما يشكل خطرا على المجتمعات ويؤدي إلى تضليل الجماهير.
ويتوقف الكتاب كذلك، أمام طفرة الإعلام الاجتماعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدت الى ظهور مجتمعات أكثر انفتاحا وظهور مجتمعات افتراضية وجمهور فاعل مع الصورة والربط بسرعة هائلة وبطريقة غير مسبوقة بين أناس من مجتمعات من مختلف أرجاء العالم. قائلا: إن وسائل التواصل الاجتماعي اصبحت اليوم آداة رئيسية في خلق عوالم افتراضية تمزج بين الحقيقة والخيال، متوقفا بتفصيل شديد أمام تأثيرات هذه المجتمعات الافتراضية.
كتاب “بث مباشر”.. من الكتب القيمة التي لا تحتاجها فقط المكتبة المصرية والعربية، ولكن يحتاجها كل من يعمل في مهنة الإعلام والنشر ليعرف كيف يتلمس طريقه وتأثير مختلف الوسائل والوسائط في الوصول للناس. خصوصا وانه يتوقف باستفاضة ووعي أمام صناعة المحتوى وخصوصا المحتوي العربي راصدا بعض مظاهر القصور فيه، وكذلك الاعلام الديني.
كتاب بث مباشر.. كلمة جادة في عصر السماوات المفتوحة ووسائل التواصل الاجتماعي الرهيبة، والإعلام اللامحدود من كل حدب وصوب، يستحق القراءة وتوجيه الشكر لكاتبه وتسليط الضوء على محتواه.