االإمام محمد كامل الطرابلسي.. فقيه ليبيا وحامل لواء الوسطية
بقلم: د. محمد القاياتي، باحث بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
يعد الإمام محمد كامل بن مصطفى بن محمود الطرابلسي، أحد أبرز العلماء الليبيين في القرن التاسع عشر، حيث اتسم بموسوعية علمه وعمق فكره ودوره الفعال في خدمة الدين والمجتمع. وُلد الطرابلسي في مدينة الزاوية الغربية بليبيا عام 1828م، حيث نشأ وتعلم وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل مع أسرته إلى طرابلس ليكمل مسيرته العلمية في كلية أحمد باشا ومدرسة عثمان باشا الساقزلي، حيث درس الفقه والنحو والحديث.
رحلته إلى الأزهر الشريف
توجه الشيخ الطرابلسي إلى مصر ليلتحق بالأزهر الشريف، قاصدًا نهل العلوم الشرعية واللغوية، وقد مكث هناك سبع سنوات، حيث تتلمذ على أيدي كبار علماء الأزهر في عصره، مثل الإمام الباجوري وبرهان الدين السقا وعبد الهادي نجا الإبياري. وقد أثر الأزهر في شخصيته تأثيرًا عميقًا، إذ كان يتسم بروح التسامح وقبول الآخر، مما جعله يوازن بين العلوم المختلفة ويحقق توازنًا في حياته، متعلمًا أهمية الوسطية واحترام المذاهب الإسلامية الأخرى، فبرغم كونه حنفيًا إلا أنه لم يظهر أي صدام مع المذاهب الأخرى، بل سعى للتعايش الفكري والديني.
عادات علمية ومواقف إنسانية
كان الإمام الطرابلسي منظمًا في علاقاته العلمية؛ حيث كان يقيد في دفتر خاص كل من يستعير منه كتابًا، حتى أصبح هذا الدفتر مرجعًا لمعرفة العلماء والمثقفين في عصره. وإلى جانب شغفه بالعلم، كان حريصًا على ممارسة الرياضة والترويح عن نفسه؛ حيث اعتاد على التنزه مع أقرانه على شاطئ النيل مساء كل خميس، يتبادلون خلالها الحديث عن العلوم والآداب والطرف العلمية.
نهضة علمية وفكرية بليبيا
بعد عودته إلى ليبيا، تولى الطرابلسي عمارة المدرسة العثمانية، حيث ساهم بفاعلية في نشر العلم وتدريس الطلاب، مما أدى إلى نشوء نهضة علمية كبيرة في طرابلس. كما قام بتأليف عدد من الكتب، أبرزها “الفتاوى الكاملية في الحوادث الطرابلسية”، الذي يعكس اجتهاداته وآرائه الفقهية في إطار المذهب الحنفي. ولم تقتصر جهوده على التدريس والتأليف، بل انخرط أيضًا في قضايا المجتمع الليبي، حيث كان يحث على الوحدة الوطنية ومحاربة الاحتلال، فكان شخصية ملهمة لأهله، يسعى إلى تحقيق الاستقرار ويحث على التكاتف ضد المحتل.
الإفتاء وتوسيع المدارك
في عام 1893م (1311هـ)، تولى الطرابلسي منصب الإفتاء في ليبيا، وظل في هذا المنصب حتى وفاته عام 1897م (1315هـ)، وقد شهدت تلك الفترة صدور عدة مؤلفات له، أبرزها:
• “حواشٍ على البيضاوي” – مخطوط في مكتبة الأوقاف بطرابلس.
• “الفتاوى الكاملية في الحوادث الطرابلسية” – مطبوع في مصر، ويتناول فيه الفقه الحنفي.
• “فتح الودود في حل المقصود” – في فن الصرف، وغيرها.
الأثر المصري في تكوينه
كانت إقامته في مصر إحدى أهم المراحل في حياته، إذ أسهمت في تعميق فهمه للشريعة وإكسابه رؤية شمولية لمقاصدها، كما أتاحت له التفاعل مع ثقافات وأجناس مختلفة، مما وسّع آفاقه وجعله قادرًا على التعامل مع مختلف القضايا بتوازن واعتدال.
تراث خالد
بقيت آثار الإمام محمد كامل الطرابلسي حتى اليوم في ليبيا والعالم الإسلامي. فقد جمع بين العلم والعمل، وبين التمسك بالدين والانفتاح على الآخر، وأسهم في نشر قيم التسامح والتعايش، مؤكدًا على نهج الأزهر الوسطي الذي تربى عليه، فرحم الله الشيخ الطرابلسي، ونفع بعلومه وتراثه الأجيال القادمة.